بداية هذا اللغز تعود لعام 1967.. ففي هذا العام نجحت البحرية المصرية فى إغراق المدمرة الإسرائيلية «إيلات»، وهي أكبر قطع الأسطول البحري الإسرائيلى آنذاك.
ما دفع الاحتلال الإسرائيلي في العام التالى إلى شراء الغواصتين «داكار» و«دولفين» من بريطانيا، لدعم قواتها البحرية في مواجهة مصر.
وكان مقررًا أن تصل الغواصتان إلى حيفا، وهى القاعدة الرئيسية للبحرية الإسرائيلية، حيث تقيم البحرية الإسرائيلية بهذه المناسبة احتفالا كبيرًا، يحضره رئيس الوزراء الإسرائيلى ليفى أشكول.
لكن فجأة، وقبل ساعات من وصولها، تلقى قائدها الرائد بحري «يعكوف رعنان» أمرًا بالتوجه نحو ميناء الإسكندرية، لمهاجمة قطع بحرية، كان مقررًا أن يستقلها الرئيس جمال عبد الناصر، صباح يوم 25 يناير لمتابعة مناورة بحرية.
اقتربت الغواصة «دكار» جدًا من ميناء الإسكندرية، وفى يوم 23 يناير 1968 بعث قائدها برسالة من كلمة واحدة إلى قادته فى «تل أبيب»، وهي «تمام»، وبعدها انقطع تمامًا أي اتصال بالغواصة، وعلى متنها طاقمها المكون من 69 ضابطًا وجنديًا.
وبينما تحدثت الصحف المصرية عن إغراق البحرية المصرية للغواصة «داكار»، نفت الحكومة المصرية الأمر.
وعلى مدى 45 عامًا ترفض إسرائيل الاعتراف بأن البحرية المصرية هي التي أغرقت الغواصة، وتعتبر عملية إغراقها لغزًا معقدًا لم تعثر له على حل، رغم العون الذي تلقته من عدة دول كبرى.
وأمس الأحد، نشر الأرشيف الحكومى الإسرائيلي 16 وثيقة حكومية حول اختفاء «داكار» وعمليات البحث المكثفة، التي قام بها الجيش الإسرائيلي، بالتعاون مع قوات بريطانية وأمريكية ويونانية للعثور على بقاياها.
هذه الوثائق تشمل برقيات لوزارة الخارجية الإسرائيلية، ومحاضر جلسات الحكومة حول الغواصة، فضلا عن تقرير سرى قدمه رئيس سلاح البحرية إلى وزير الدفاع.
ففى السادس والعشرين من يناير 1968، وبعد انقطاع الاتصالات مع الغواصة، أبرق قنصل إسرائيل فى واشنطن، شلومو أرجوف، إلى وزارة الخارجية، بأن محطات الإذاعة والتليفزيون فى الولايات المتحدة نقلت عن مصدر بريطانى قوله إن الغواصة الإسرائيلية اختفت شمالى الإسكندرية، ملمحة بذلك إلى احتمال أن تكون الغواصة تعرضت «لعملية تخريبية» على يد المصريين ولم تتعرض لعطل فنى.
ونتيجة لذلك أرسل سفير إسرائيل فى واشنطن، برقية يقترح فيها على الحكومة الإسرائيلية أن تحدد المكان الذى صدر منه آخر اتصال من الغواصة من أجل نفى الشائعات عن اختفائها قرب الإسكندرية.
ومنذ يوم اختفائها، بدأت إسرائيل عمليات بحث موسعة عن الغواصة، شاركت فيها قوات من الجيش الإسرائيلى وطائرات أمريكية وبريطانية وقوات يونانية. وبعد يومين من البحث عثرت طائرة إسرائيلية على بقعة من الزيت بجوار سفينة يونانية، فأرسلت الخارجية الإسرائيلية برقية إلى سفارتها فى أثينا تطلب منها مساعدة السلطات البحرية اليونانية للتحقق من بقعة الزيت، وما إذا كانت من بقايا الغواصة أو من مخلفات سفينة يونانية، لكن بعد تحليل عينة الزيت، اكتشف أنه ليس من النوع الذى تستخدمه «داكار».
عراف هولندى
لم تتوقف جهود إسرائيل لفك لغز الغواصة عند عمليات البحث فى البحر المتوسط فحسب، إذ تخطت ذلك إلى البحث فى مسارات غير اعتيادية، وصلت إلى حد أنها طلبت مساعدة العرافين.
إذ تشير الوثيقة رقم 6 إلى أن سفارة إسرائيل فى لاهاى، أبرقت إلى وزارة الدفاع الإسرائيلية بأنها استعانت بعراف هولندى أثبت قدرة فى السابق فى تحديد أماكن الغواصات المختفية، وأن العراف الهولندى أخبرها بأن الغواصة غارقة على أحد جوانبها فى قاع البحر؛ إثر إصابتها بصاروخ طوربيدو. وعند هذا الحد انتهت قصة العراف الإسرائيلى، على الأقل وفقا للوثائق الـ16 التى كشفت عنها إسرائيل.
وفى الثامن والعشرين من يناير قدم قائد سلاح البحرية الإسرائيلية، شلومو أريئيل، تقريرًا مفصلا أمام لجنة وزارية لشئون الدفاع عن اختفاء الغواصة، وبحسب محضر اجتماع الحكومة، تحدث أريئيل عن عمليات تطوير الغواصة بعد شرائها من بريطانيا، وعن مهارة طاقمها.
ومضى موضحا أنه بعد بضع ساعات من بداية عمليات البحث استؤنف الاتصال بالغواصة، ثم انقطع، وبعد مرور يومين عاودت الغواصة الاتصال، قبل أن ينقطع ثانية بشكل مفاجئ؛ ما أثار الشكوك بأن هناك من يحاول تضليل عمليات البحث.
ومع ذلك استبعد أريئيل أن يكون المصريون وراء محاولات التضليل، وردًا على سؤال من الوزير مردخاى بن طوف حول إمكانية بقاء طاقم الغواصة على قيد الحياة، استبعد قائد البحرية الإسرائيلية ذلك الاحتمال.
وفى الثلاثين من يناير، وبعد خمسة أيام من البحث، أعلنت قيادة عمليات البحث البريطانية فى جزيرة قبرص أنه لا أمل فى العثور على الغواصة، وأن عمليات البحث الدولية ستتوقف مع غروب شمس اليوم التالى، غير أن إسرائيل واصلت عمليات البحث بمفردها حتى الرابع من فبراير 1968.
وفى الثانى من فبراير، بعث قنصل إسرائيل فى العاصمة التركية أنقرة، دانيئل ليئور، برقية سرية إلى وزارة الخارجية يقول فيها إن الملحق العسكرى الإسرائيلى فى السفارة طلب من رئيس الأركان التركى السماح لطائرات وسفن إسرائيلية بالقيام بعمليات تمشيط لأجزاء من السواحل الجنوبية لتركيا.
إلا أن هذا الطلب قوبل بالرفض من الجانب التركى، الذى عرض أن تقوم القوات التركية بالتمشيط بنفسها. وعلل ليئور أسباب الرفض التركى بأن هذه المنطقة تعتبر حساسة بين قبرص وتركيا، حيث حشد الأتراك قواتهم للقيام بغزو عسكرى لقبرص.
ومضى الملحق العسكرى قائلا: "إن الأتراك يرفضون أن تقوم دولة أجنبية بعملية بحث داخل سواحلهم دون رقابة تركية، كما أن الغرور التركى يجعل الأتراك يعتقدون أنهم قادرون على عمل ذلك أفضل من الإسرائيليين".
الغواصة فى الأسر
وفى الرابع من فبراير، أعلن متحدث باسم رئيس الأركان الإسرائيلى أن الغواصة «داكار» وطاقمها قد صاروا فى عداد المفقودين، وتقرر وقف عمليات البحث عنها.
ووفقا للوثيقة رقم 11 من محاضر جلسات الحكومة الإسرائيلية، فإن وزير الدفاع موشيه ديان أوصى خلال اجتماع للحكومة بأن يوصف طاقم الغواصة فى هذه المرحلة بالمفقودين، وليس القتلى.
وشدد ديان على أن الغواصة لن يتم العثور عليها أبدا؛ لأنه لا يوجد جهاز يمكنه الغوص فى الأعماق التى غرقت فيها.
وأضاف أن حالة الحرب بين إسرائيل والدول العربية فى البحر المتوسط تزيد من صعوبة المسألة، ولم يستبعد احتمال أن تكون مدمرة مصرية أو روسية أصابت الغواصة وأسرت طاقمها، وعلى ذلك لا يمكن القول بأن الغواصة قد غرقت، ويجب الانتظار حتى ظهور معطيات جديدة قبل الإعلان عن طاقم الغواصة كقتلى.
3أسباب
لكن بعدها بيومين، وبحسب الوثيقة 12، قال الكولونيل فى سلاح البحرية الإسرائيلية أفراهام بوتسير فى شهادته أمام لجنة الدفاع والخارجية التابعة للكنيست (البرلمان)، إن هناك ثلاثة أسباب محتملة لغرق الغواصة، منها احتمال أن تكون قد تعرضت لتخريب متعمد، لكنه رأى أنه هذا السبب غير معقول أو منطقى.
وعندما سأله أعضاء اللجنة عن الإشارات التى أرسلتها الغواصة بعد اختفائها ثم انقطعت بشكل فجائى، استبعد بوتسير احتمال أن تكون هناك عملية تضليل قام بها المصريون، مرجحة أن تكون محطة لاسلكية للهواة قد ردت على نداءات إسرائيل أو أن هناك خطأ فى جهاز لاسلكى.
وفى الأول من مارس 1968، قدم قائد سلاح البحرية الجنرال شلومو أريئيل تقريرًا سريًا لوزير الدفاع موشيه ديان من 87 صفحة عن فقدان الغواصة «داكار»، وضم 13 ملحقا تفصيليا. ونفى هذا التقرير احتمال أن تكون الغواصة قد غرقت بسبب عيب فنى تعرضت له؛ نظرا لكونها غواصة قديمة، وأشار إلى التعديلات التى طالت بنية الغواصة ساهمت فى تطويرها.
وقدم التقرير ثلاثة أسباب محتملة لغرق الغواصة: أولها أن تكون الغواصة قد أصابها عطل فنى أو تعرضت لخطأ بشرى، والثانى أنها تعرضت لعمل معاد من الأسطول السوفييتى، وهو احتمال لم يستبعده التقرير تماما، وأخيرا أن تكون الغواصة قد اصطدمت بقطعة بحرية أخرى، وهو احتمال اعتبره التقرير ضعيفا نظرا لعدم وجود شواهد عليه.
وأوصى التقرير باعتبار طاقم الغواصة «قد غرقوا فى أعماق البحر، ولم يعودوا على قيد الحياة». ولايزال الجانب الأكبر من هذا التقرير سريا يحتفظ به أرشيف القوات البحرية، ولم يكشف إلا عن جانب صغير منه.