من صفحات التاريخ - في اليوم السابق للانقلاب ظهرت بوادر الخيانة

من صفحات التاريخ:

قرأت اليوم صباحاً و أنا في الحافلة في طريقي إلى العمل حكاية انقلاب تشيلي عام 1973 الذي قاده أوغستو بينوشيه قائد الجيش التشيلي في ذلك الوقت و الذي أطاح من خلاله بالرئيس المنتخب د. سلفادور الليندي الذي وصل إلى السلطة بعد أول انتخابات حرة تشهدها البلاد تصل برئيس من المعارضة الاشتراكية إلى سدة الحكم ... 

و كان الرئيس المنتخب قد قام بنفسه قبل فترة قصيرة من وقوع الانقلاب باختيار و تعيين أوغستو بينوشيه لقيادة الجيش خلفاً لقائده السابق الذي كان يتمتع بنفوذ قوي و كان الرئيس يخشى من انقلابه عليه ...

في اليوم السابق للانقلاب ظهرت بوادر الخيانة من قائد الجيش المعين حيث قام بتهديد الرئيس و طالبه بالاستقالة طوعاً بحجة أن سياساته تهدد أمن البلاد و تزعزع استقرارها ... 

رفض الرئيس المنتخب الرضوخ للتهديدات و أصر على ضرورة احترام الشرعية الدستورية و الانتظار حتى الانتخابات القادمة ... 

فما كان من قائد الجيش إلا أن حاصر القصر و سيطر عليه بالقوة و أعلن تعطيل العمل بالدستور و حل البرلمان و عزل الرئيس المنتخب الذي اختفى عن الانظار إلى أن ادعى الانقلابيون أنه انتحر في محبسه (هذه روايتهم .. الرواية الأخرى بالطبع تقول أنهم هم من قتلوه) ... 

تبين فيما بعد بشكل أكيد أصبح من حقائق التاريخ التشيلي و العالمي أن الانقلاب كان مدعوماً من الخارج في تجلي لتلاقي مصالح دول رأسمالية كانت لا تريد أن ترى نظام اشتراكي جديد ينمو بالقرب منها مع مصالح أنظمة استبدادية في أمريكا اللاتينية كانت تخشى أن تنتقل عدوى التغيير إليها ... و هناك أرقام أصبحت مما هو معلن و معروف لمبالغ مالية طائلة تدفقت على تشيلي للتمهيد لعزل المنتخب و تثبيت الانقلاب بعده ... 

برر الانقلابيون فعلتهم بالحرص على المصالح العليا للبلاد و حماية الشعب و اتهموا الرئيس المعزول بالولاء للفكر الاشتراكي الدخيل أكثر من ولائه للوطن تشيلي ... ووعدوا بعودة الحياة الديموقراطية سريعاً بعد تعديل الدستور و عودة الاستقرار ... 

و لكن شيئاً من هذا لم يتحقق ... فقد انتهى الأمر باستلام قائد الجيش الانقلابي للسلطة بحكم الأمر الواقع و بمساعدة رزمة قوانين فصلها رجاله من القانونين لتكون على مقاسه و تحقق مصالحه... فمنعوا حزب الرئيس المعزول من المشاركة السياسية و طاردوهم في أنحاء البلاد و قتلوا 3000 تشيلي من مؤيدي الرئيس المعزول و سجنوا أكثر من 27 ألفاً على خلفيات سياسية ... 

ثم كتب الانقلابيون دستوراً جديداً بعد تعطيل الدستور السابق و مرروه بالتزوير و بغطاء من قوى سياسية رأسمالية كانت على خلاف فكري و سياسي مع الحزب الاشتراكي الذي جاء منه الرئيس المعزول فرحبت بالانقلاب و سارت في ركابه ... ترتب على هذا الدستور تقليد قائد الجيش الانقلابي منصب الرئيس بنظام الاستفتاء بلا منافسة ... 

بعد عدة سنوات من حكمه حاول بيونشيه أن يدخل تعديل على الدستور يتيح له البقاء في السلطة مدى الحياة ... إلا أن القوى الشعبية المناهضة للانقلاب كانت في ذلك الوقت قد اتسعت حلقتها لتشمل دوائر أوسع ... فقادوا حملة "لا" التي تمكنت - لاسيما في ظل الفشل الذريع لحكومة النظام الانقلابي - من حشد الشارع للتصويت ضد التعديل الدستوري المقترح و لحماية عملية الاستفتاء من أي تزوير .... و جاءت النتائج بأغلبية ساحقة رافضة للتعديل فأجبر قائد الانقلاب على ترك منصبه ...

إلا أن الرجل كان قد احتاط لهذا الوضع بإضافة مادة في الدستور الذي تمكن من تمريره سابقاً تحصنه شخصياً حتى بعد مغادرة الحكم و تحافظ له على نفوذه السياسي ... فقد نص الدستور على ان الرئيس بعد تركه لمنصب الرئاسة لأي سبب يظل عضواً دائماً في البرلمان و يتمتع بحصانة دائمة ... فاستفاد الرجل من هذا التحصين لفترة من الوقت ... 

ثم دار الزمان دورته ... و مرض الرجل و لم يكن في النظام الصحي الذي تعرض للإفساد في عهده ما يوفر علاج لمرضه فاضطر للسفر للعلاج في اوروبا ... و هناك لاحقته اتهامات و قضايا رفعت امام محاكم أوربية منذ وقت الانقلاب تتهمه بانتهاك حقوق الانسان و ارتكاب جرائم ضد الإنسانية ابان فترة حكمه ... قاعتقل على خلفية تلك القضايا إلى أن تم إطلاق سراحه في العام 2003 لأسباب صحية و تم ترحيله إلى تشيلي ...

لما عاد إلى تشيلي عزل من منصبه في البرلمان بسبب إصابته بالخرف الذي يستحيل معه ممارسة عمله .. ففقد التحصين و حوكم أمام القضاء التشيلي و فرضت عليه الإقامة الجبرية بسبب ظروفه الصحيه ... إلى أن جاء العام 2006 عندما دخلت المياه لتملأ رئتيه و تقتله ... في نفس اليوم خرجت مسيرات حاشدة في العاصمة و مدن أخرى فرحة بموت قائد الانقلاب الديكتاتور الذي قتل الديموقراطية التشيلية قبل أن يتمكن الأحرار من التشيلين من إحيائها من جديد .... 

إن الله يمهل و لا يهمل ... و الأيام دول .. 

* الصورة المرفقة تظهر فيها دبابات الجيش التشيلي التي ملأت الشوارع لفرض الانقلاب و مطاردة معارضيه ...