لم يتوقف أحد ليسأل نفسه: ما هي حدود الدولة الفرعونية؟ الأوثان الوطنية


منذ دخل الاحتلال بلادنا سعى في تأسيس هويات أخرى لشعوبنا ليقضي من خلالها على هويتنا الإسلامية الجامعة، فبعث من تحت الرقاد هويات الفراعنة والآشوريين والفينيقيين والبابليين.. إلى آخره، وصار كل شعب مغرما بأجداده المصطنعين الذين لا يستطيع أحدهم أن يحقق نسبه إليهم، ولا حتى احتمالا، لتطاول الزمان وتغير الأحوال وموجات لا تعد ولا يمكن ضبطها من الهجرات والتغيرات البشرية.
لم تكن المشكلة فقط في كون هذه الهويات تمثل حدودا ممزقة لوحدة أمتنا وتُطرح كبديل لهويتنا الجامعة، بل المشكلة الأكبر أنها تؤسس للعنصرية والعرقية، وهي – بهذا - تمثل نقيضا للهوية الإسلامية وتفتح بابا واسعا لهدر الإنسانية.
فالإسلام يحملنا على حب موسى وهارون عليهما السلام ومن اتبعهما (وهم غير مصريين) وعلى كره فرعون ومن اتبعه (من المصريين)، ويحملنا على حب بلال (الحبشي) وسلمان (الفارسي) وصهيب (الرومي) وعلى كره الوليد بن مغيرة وعتبة بن ربيعة وأبو جهل بن هشام (وهم العرب الأقحاح صرحاء الأنساب)، ويحملنا على حب صلاح الدين (الكردي) ومحمد الفاتح (التركي) ضد كل من فرطوا في مصالح الأمة وإن انتسبوا إلى بني هاشم!
فخلاصة الأمر أن المرء يفخر بما فعله لا بما لم يفعله ولم يختره، ومجرد الفخر بالعرق أو النسب أو اللون أو الوطن شيء لا يد لأحد فيه، ولا يملك أحد أن يغيره، فهو فخر عنصري بغيض!
على كل حال: نجحت خطة الاحتلال بنسبة كبيرة، واعتنقت كثير من الشعوب هذه العقيدة الوطنية، وجعلت من حدود سايكس بيكو التي رسمها العدو معايير مقدسة، حتى اختلف الحال، فمن بعد ما خرج الفتى الحلبي من الشام بتحريض من شيخ في غزة ليقتل قائد الحملة الفرنسية في مصر، استطاع كل مستبد في بلد أن يعتبر شعبه ملكا له يقتل كما يشاء ولا يحق لأحد أن يتدخل فيما يصنع ما دام داخل حدوده "المقدسة"، وقد بذل إخوانه المستبدون جهدهم في إقناع الشعوب أن ما يجري من مذابح إنما يجري في بلد آخر لا علاقة لنا به، ويكون استقبال اللاجئين المطحونين ليس واجبا يأثم من لا يفعله، بل هو عمل عظيم ومنة كبرى، وإذا شئنا رفعنا في وجههم شعار "الأمن القومي" الذي يمكنه منع لاجئ من السفر للتداوي حتى يموت على المعابر من أجل عيون "الأمن القومي"!
بعد قليل رسخت هذه القناعة لدى الشعوب بينما ركلها الحكام، وصاروا يتعاونون على مكافحة الإرهاب من دون أي اعتبار للحدود "المقدسة"، ويحاكمون الإرهابيين العائدين من الجهاد برغم أنهم – بمعيار الحدود المقدسة - لا يجوز محاسبتهم، لأنهم لم يرتكبوا شيئا داخل البلاد، ويتبادلون المعلومات والمحققين ووسائل التعذيب لمن لم يحترم الحدود المقدسة التي لم يحترموها هم أنفسهم.
وإذا أخذنا المصريين كمثال، نجد أن الوثن الوطني لم يعد مقتصرا على الفخر بأن حضارة الفراعنة هي أعظم حضارة في التاريخ، بل امتد حتى وصل إلى طرائف مضحكة من نوع: الطفل المصري أذكى طفل في العالم!! حتى منتخب الكرة أيام كان يحقق الإنجازات كان يُرى أن ذلك من بركة الفراعين التي بقيت في أحفادهم عبر السنين!
لم يتوقف أحد ليسأل نفسه: ما هي حدود الدولة الفرعونية؟ وهل هي ذات الحدود بين العريش والسلوم وأسوان؟!
إن هذا السؤال مؤرق لقداسة الحدود التي صنعها الاحتلال، ولذلك لا يطرحه أحد، وعليه فعليك الإيمان بشيئين متناقضين معا: نحن أحفاد الفراعنة العظماء، نعم: لكننا ملتزمون بالحدود التي رسمها لنا الاحتلال، والهدف واحد: إيجاد هويات بديلة عن الهوية الإسلامية الجامعة.
إلا أن "الوثن الوطني" كانت له تجليات أخرى داخلية، فما زال الذين عبدوا هذا الوثن يؤمنون أننا نمتلك أحسن شيء في العالم: خير أجناد الأرض، وأعرق قضاء "شامخ" في العالم، والأزهر عندنا ما يزال كعبة طلاب العلم، والإعلام عندنا حر ونزيه وجرئ.. وهذا ما نتناوله في المقال المقبل إن شاء الله، فالله المستعان.

 المصدر: الجزيرة مباشر مصر