لا يبدو أن آلاف الطلعات والغارات الجوية التي يقوم بها التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية قادرة لوحدها على تحقيق ما صرح به الرئيس أوباما -عند إعلانه عن إستراتيجيته- من أن الهدف الرئيسي للتحالف هو دحر تنظيم الدولة ومنعه من تأسيس الخلافة عبر العراق وسوريا.
فرغم سياسة التعتيم الإعلامي الشديد الذي يفرضه على حجم الخسائر الناتجة عن هذه الضربات الجوية على عناصره المقاتلة ومراكز التدريب والتجنيد ومخازن الأسلحة والذخيرة، فضلا عن نتائج استهداف منابع النفط بشراسة، يظهر تنظيم الدولة الإسلامية متماسكا على الأرض بشكل قوي، بدليل قتاله على أكثر من جبهة في وقت واحد، ودون بوادر هزيمة أو حتى انحسار.
و"داعش" إذ يظهر اليوم كقوة عسكرية في غاية التكتل والتنسيق ولا يستهان بها، يخنق التجمعات المسلحة الكردية في سوريا المدعومة جوا من قوات التحالف، كما يتمدد أكثر وأكثر في العراق رغم كثافة القصف الأميركي والفرنسي والبريطاني والدعم العسكري الغربي اللامحدود لقوات البشمركة وما يسمى الحشد الشعبي المشكل من مليشيات شيعية متنوعة ومدعومة من إيران تحديدا.
"يثور نقاش جدي في أميركا حول ماهية الحرب وضرورة التوسع فيها، خاصة على مستوى حماية الأمن القومي الأميركي، وهو ما دعا صحفا أميركية كبرى مثل واشنطن بوست إلى طرح تساؤلات عميقة حول شرعية شن حرب مفتوحة على تنظيم داعش وتدميره"
وقد صرح عضو لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأميركي كريس ميرفي مؤخرا لشبكة "سي.أن.أن" من أنه لا يمكن هزيمة داعش بالخيار العسكري فقط، كما أشار السيناتور جون ماكين إلى أن "إلحاق الهزيمة بداعش اليوم أكثر صعوبة".
ومع ذلك، تسعى بعض النخب في أميركا للتأكيد أن هزيمة داعش "حرب أميركية" بامتياز، وليس أمام الإدارة الأميركية سوى خوضها حتى النهاية مهما كانت التكاليف والتضحيات.
وإذا استثنينا دوافع الحرب الهزيلة التي جاءت على لسان ماكين وغيره من أن تنظيم داعش يشكل تهديدا وجوديا للأمن القومي الأميركي بسبب التحاق عدد من الشبان الأميركيين به، فإن حماية الأكراد تبرز كأحد أهم دوافع أميركا نحو هذه الحرب، خاصة لضمان سيطرتهم على آبار النفط في الشمال العراقي.
ولذلك، يثور نقاش جدي في أميركا حول ماهية هذه الحرب وضرورة التوسع فيها، خاصة على مستوى حماية الأمن القومي الأميركي، وهو ما دعا صحفا أميركية كبرى مثل واشنطن بوست إلى طرح تساؤلات عميقة حول شرعية شن حرب مفتوحة على داعش وتدميره، وأن ذهاب أوباما في الحرب إلى النهاية نحو تدمير داعش لا صلة له بأي مخطط مباشر يستهدف الولايات المتحدة وأمنها، وهو ما يعني -عسكريا- انعدام الإرادة اللازمة لشن الحروب والقيام بالمواجهات العسكرية الحاسمة.
وعندما نقلت الصحف الأميركية قول أوباما للصحفي الشهير فيردمان "لدينا رغبة إستراتيجية لوقف تنظيم داعش.. لن ندعهم ينجحون في تأسيس الخلافة عبر العراق وسوريا"، كانت نخبة من الكتاب والمراقبين الأميركيين قد بدأت تناقش إستراتيجية أوباما من قبيل: لماذا يبدو دحر داعش رغبة إستراتيجية للولايات المتحدة؟ أين يكمن التهديد الحتمي لظهور داعش أو حتى في توحيد سوريا والعراق على الأمن القومي الأميركي؟ وهل خطر داعش على أميركا حقيقي بحيث يستحق توظيف القوة الأميركية العسكرية وتعريض حياة الأميركيين للخطر؟
وقد يكون من المناسب القول إن مثل هذه الأسئلة والتردد الجلي في خوض الحرب -حتى النهاية- لم يكن يطفو على السطح إبان التبجح الأميركي العسكري الذي أدى إلى غزو أفغانستان والعراق، بيد أن تبدل موازين القوى اليوم ونجاح ضربات المقاومة في جرّ أميركا نحو حروب استنزاف طويلة ذات كلفة اقتصادية هائلة، دفع النخب الأميركية إلى البحث العميق عند شن الحروب والتأني في قراءة دوافع الحرب قبل خوضها، وهو ما يعني أن الولايات المتحدة قد تتجنب أخيرا حروب الاستعمار وتنكفئ أكثر فأكثر نحو الحروب الدفاعية والاستباقية الحقيقية والجادة فقط.
وهذا يعني أن هناك إمكانية كبيرة جدا لقبول الأمر الواقع والتعامل مع داعش كقوة عسكرية حقيقية على الأرض، خاصة في ظل دعوات غربية محدودة تدفع بالسماح للتنظيم بالسيطرة على مناطق السنة في العراق وسوريا ومنحه الفرصة الكاملة للحكم، ومن ثم إخضاع العرب السنة لنوع من "العقاب الجماعي" تحت لهيب حكم جماعة دينية بالغة في العنف والخشونة والتخلف في الممارسة والتنظير.
ويبدو أن مبادئ الشرعية والقانون الدوليين لا تحتوي أي عنصر أو قيمة معيارية تحرم تنظيم داعش من إعلان دولته، وسيكون له كل الحق القانوني والشرعي اللازم في المطالبة -جدلا- بالاعتراف بها كعضو في منظمة الأمم المتحدة، إذ يرتكز داعش على كل العناصر الموضوعية اللازمة لقيام الدولة، خاصة بعد أن جرّد القانون الدولي نفسه من النظر في شرعية الدولة الناشئة وقراءة الأحداث الداخلية لها، واستخف كذلك بالعناصر المعيارية الملتصقة بحقوق الإنسان والحريات والقوانين والقيم الضرورية الأخرى لتأسيس ما يسمى "دولة القانون".
والواقع أن داعش يدّعي اليوم أن لديه الشرعية اللازمة لإقامة وإعلان دولته، ورغم استناده في ذلك إلى إرث فقهي سني إسلامي دون الاكتراث بمتطلبات الشرعية الدولية الحالية وعناصرها الموضوعية، فإن هناك الكثير من أوجه الشبه الخطيرة بين حجج داعش الفقهية والإسلامية المرتكزة على فقه القوة والغلبة والشوكة، وبين القانون والشرعية الدولية التي تمنح الاعتراف لحكومات الانقلابات العسكرية وتؤيد شرعية حكومات أخرى تفتقد إلى كل مقومات الدولة الحديثة بعناصرها المعيارية.
"يبدو أن مبادئ الشرعية والقانون الدوليين لا تحتوي أي عنصر أو قيمة معيارية تحرم داعش من إعلان دولته، وسيكون له كل الحق القانوني والشرعي اللازم في المطالبة -جدلا- بالاعتراف بها كعضو في منظمة الأمم المتحدة"
فاليوم الشرعية الدولية -كما تسمى- غير معنية بماهية الدولة المعترف بها وما إذا كانت ثيوقراطية أو ديمقراطية، ولذلك تم قبول الفاتيكان كدولة مستقلة والحال كذلك مع دول أخرى كإيران وغيرها. وقد توقف المجتمع الدولي عن الاعتراف بالدول وفق التزام الدولة -المراد الاعتراف بها- بمعايير حقوق الإنسان والحريات واحترام حقوق الأقليات وغيرها من القيم الأخرى منذ عهد بعيد جدا، وبات الاعتراف اليوم قرارا سياسيا محضا تحكمه مصالح وعلاقات سياسية مختلفة.
وعليه، فإن النتيجة الموضوعية تفرض نفسها هنا قانونيا وتطبيقيا في أن حجم خرق داعش للقيم المعيارية وانتهاكه لها لا ينبغي أن يخلق تأثيرا سلبيا على قيام وإعلان داعش لدولته، بل وحتى في الاعتراف بها دوليا. والعالم اليوم يشهد على دول بعينها تمارس أبشع الخروقات في مجال حقوق الإنسان وغيره، ولم يؤدِّ ذلك إلى التشكيك في شرعيتها، فضلا عن سحبها وحرمانها منها.
تنص اتفاقية منتفديو المتعلقة بحقوق الدول وواجباتها عام 1933، على أن الدولة تتشكل من عناصر أربعة: شعب، وأرض، وحكومة، وقدرة على الدخول في علاقات مع دول أخرى.
وعندما تم الإعلان عن دولة الخلافة في العراق، يكون تنظيم داعش قد أتم المطلبين الأولين، إذ هو اليوم دولة ذات منطقة جغرافية محددة تقع بين شمال سوريا إلى محافظة ديالى العراقية، ولا يغير من حقيقة الحدود الجغرافية الجديدة لدولة داعش تهشم السيطرة الكلية على بعض القرى والمدن الصغيرة هنا وهناك، فكثير من الدول المعترف بها حديثا ما زالت تخوض نزاعات مسلحة شرسة مشابهة للسيطرة على كامل أراضيها ولم تنجح حتى الآن.
ولا تفرض الاتفاقية شكلا معينا للحكومة، بل تطلب ممارسة أنشطة سيادية اعتيادية مرتبطة بالحكم كتلك التي يقوم بها داعش حاليا -على أكمل وجه- كالسيطرة على آليات القوة، وتسيير المرافق وخدمتها، بالإضافة إلى تحصيل الإيرادات وضبط مصارفها.
يبقى التحدي الحقيقي الأكبر لداعش -وفق اتفاقية مونتفديو- هو في المطلب الرابع الذي ينص على القدرة على إقامة علاقات مع دول أخرى، بيد أن هذا المطلب القانوني شديد الوضوح في أنه لا يُطرح على وجه الإلزامية، بل يبقى في إطار الخيارات السياسية للدولة المراد الاعتراف بها.
ولذلك، لا يوجد -على المستوى الدولي- ما يفرض على الدول إقامة علاقات مع دول أخرى، وستجد أن هناك دولا كثيرة تعاني اليوم علاقاتها الخارجية الكثير من التحديات بسبب وجود نزاعات متعددة سياسية واقتصادية وأيدولوجية، ولم يمنع ذلك من تمتعها بالاعتراف الشرعي، أو أن يؤدي انحسار علاقاتها الخارجية إلى حرمانها أو سحب الاعتراف الدولي بها.
صحيح أن دولا أخرى ناشئة خاضت تجربة ما يسمى "الحق في تقرير المصير" كمطلب تمهيدي ضروري يسبق قيام الدولة والاعتراف بها، كما حصل في دولة جنوب السودان، وما كان يمكن أن يحصل بمقاطعة أسكتلندا في بريطانيا وفي غيرها من الدول، وهو المطلب الذي يعني استفتاء السكان المحليين الخاضعين لسيطرة الحكومة.
ومع ذلك، فإن لداعش -جدلا- الحق في الادعاء بأن حق تقرير المصير ليس في ذاته الطريق الوحيد لإقامة الدول والاعتراف بها، والجميع يعلم أن معظم الدول العربية والخليجية لم تتأسس شرعيتها وفق حق تقرير المصير، وكذا إسرائيل -الجسم السياسي الأبرز في العالم الحديث- التي أقامت دولتها وفرضت شرعيتها دوليا بمعزل عن إرادة السكان المحليين.
في السياق ذاته، سيلحظ المراقب حمّى تتزايد دوليا نحو الاعتراف بدولة جديدة للأكراد في إقليم كردستان العراق رغم وجود الممانعة الشديدة لهذه الدولة -المزمع قيامها قريبا- من دول شديدة الثقل إقليميا، ناهيك عن حجم النزاع الحدودي الشديد الذي سيولّده الاعتراف بهذه الدولة الجديدة مع دول مثل إيران وسوريا والعراق وتركيا، وهذا يعني أن تهديد كردستان لحدود جيرانها يوازي تهديد داعش لجيرانه في أقل الأحوال.
"داعش يملك كل المعطيات والإمكانيات لتحدي المجتمع الدولي اليوم والاستهزاء بقوانينه، فالازدواجية التي يمارسها الأخير في سياق قيام الدول مثيرة للسخرية، والبون شاسع بين العناصر التي يطرحها القانون الدولي وبين ما يحدث على أرض الواقع "
ومع ذلك، لا يبدو أن هذه المعركة الحدودية المرتقبة في المنطقة تشكل تحديا -على الأقل وفق المعطيات المطروحة في الوقت الراهن- لإقامة دولة للأكراد والاعتراف بها دوليا، فضلا عن وجود عدد هائل من اللاجئين والعرب يعيشون في إقليم كردستان الحالي ولا يرغبون في الخروج من الجسم العراقي.
وإذا كانت سوريا والعراق ستدعيان أن المنطقة الجغرافية الخاضعة لسيطرة داعش حاليا تابعة لهما قانونيا وسياسيا حتى لو فقدتا السيطرة عليها مرحليا، فإن دول الإقليم مجتمعة -خاصة العراق وتركيا وسوريا- سيكون لها كذلك الحق في مواجهة المجتمع الدولي بذات الحجة ونفس التبريرات. وكما بقيت دولة السودان عقب استقلال دولة جنوب السودان، فلن يمحو كذلك قيام دولة داعش دولتي العراق وسوريا من على خريطة العالم.
يملك داعش كل المعطيات والإمكانيات لتحدي المجتمع الدولي اليوم والاستهزاء بقوانينه، فالازدواجية التي يمارسها هذا المجتمع في سياق قيام الدول والاعتراف بها مثير للسخرية، فالبون شاسع بين العناصر الأربعة الموضوعية التي يطرحها القانون الدولي وبين ما يحدث على أرض الواقع من تجاوز لها في كثير من الحالات.
بيد أن الخطر الأكبر لا يكمن في عدم اطراد مبادئ الشرعية الدولية ومن ثم عجزها عن إحلال السلم والأمن الدوليين، بل في افتقارها إلى العناصر المعيارية التي أشرنا إليها سابقا والمرتكزة على قيم حقوق الإنسان والحريات واحترام الأقليات ومطالبة الدول -قبل الاعتراف بها- بتطبيق هذه المعايير والالتزام بها على نحو جاد وحقيقي.
والعالم اليوم يدفع ثمن هذه الرؤية الموضوعية المكتنزة في الشرعية والقانون الدوليين، وقد كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في غاية التألق من على منبر الأمم المتحدة وهو يقرأ صلاة الميت على المنظمة الدولية وقوانينها بعدما سمحت لشخص مثل السيسي أن يعتلي المنبر الدولي ويدعي شرعيته وحكومته الدموية.
يستطيع اليوم داعش أن يحرج المجتمع الدولي ويقزّمه، والأخير بين خيارين: إما أن يلتزم بقواعده الموضوعية -التي أشرنا إليها- ويمنح داعش عضوية الأمم المتحدة، أو يتبنى العناصر المعيارية لإقامة الدول والاعتراف بها، وبذلك يكون داعش والسيسي -وغيرهما كثير على السواء- محل ملاحقة دولية جنائيا وقضائيا.
المصدر : الجزيرة